اللاجئون بين معابر الموت وابتزاز السياسة.. كيف تحول الإنسان لورقة تفاوض بأيدي القوى العالمية؟
اللاجئون بين معابر الموت وابتزاز السياسة.. كيف تحول الإنسان لورقة تفاوض بأيدي القوى العالمية؟
يتشبث اللاجئون بالحياة بكل ما تبقّى لديهم من قوة، وسط عالم يُضيق عليهم الخناق يوماً بعد يوم، لم تعد هذه المأساة محصورة في جغرافيا محددة أو لحظة زمنية عابرة؛ بل تحوّلت إلى وجه صارخ لعالم يبيع المبادئ، ويشتري الصمت، ويدير الأزمات الإنسانية كأوراق مساومة سياسية.
وبينما تُدغدغ خطابات المؤتمرات الدولية آذان المشاركين بشعارات حقوق الإنسان، تُقايَض حياة اللاجئين على طاولات المصالح، في سوريا، على سبيل المثال، يعيش أكثر من 1.2 مليون نازح في مخيمات محرومة من أبسط مقومات الحياة، فمثلًا معبر "باب الهوى" الذي يُفترض أن يكون شريان نجاة، تحوّل إلى أداة ضغط، يُفتح ويُغلق بحسب المزاج الدولي، لا بحسب احتياجات الأطفال والمرضى والمسنين.
وكشف تقرير للأمم المتحدة في فبراير 2024 أن 78% من حالات إغلاق المعابر في سوريا كانت بدوافع سياسية محضة، لا إنسانية. أما منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فبيّنت أن 65% من المساعدات تمرّ عبر شروط تفرضها القوى المتحكمة، ما يجعل الخبز والدواء امتيازات سياسية لا حقوقًا إنسانية.
وفي اليمن، لا يختلف المشهد كثيراً، الحرب حولت البلد إلى ساحة مفتوحة للموت البطيء؛ فوفق منظمة الصحة العالمية، فإن 82% من طلبات إدخال الأدوية قوبلت بالرفض أو التأجيل خلال 2023، في ظل لعبة شدّ وجذب سياسية يُدفع ثمنها من أجساد الأطفال.
واختصر الدكتور فؤاد السقاف، أستاذ العلوم السياسية في صنعاء، الكارثة بقوله: "المعابر تحوّلت إلى أوراق ضغط تفاوضي، تُدار بها حياة الناس وتُقايض بها القرارات"، أكثر من 23 مليون يمني بحاجة إلى المساعدات، و1.2 مليون طفل يعانون سوء تغذية حادًّا، في وقت تصمّ فيه الآذان عن نداءاتهم.
الجدران قبل الحديث عن الإنسانية
في الغابات البيلاروسية المثلجة على الحدود مع بولندا، أعيد تمثيل المأساة الإنسانية بمشهدٍ جديد، 4800 لاجئ علقوا في شتاء 2023 بين أسلاك شائكة وجدران فولاذية، وتوفي 23 شخصاً نتيجة البرد والجوع، وأقر التقرير الصادر عن المفوضية الأوروبية مطلع 2024 باستخدام اللاجئين كأوراق ضغط في الخلاف السياسي بين بروكسل ومينسك.
المفارقة أن أوروبا أنفقت أكثر من 1.3 مليار يورو على تعزيز حدودها، في حين بقيت المساعدات متعثرة، واللاجئون أسرى التجاهل.
ولم تعد المعابر مجرد ممرات إنسانية، بل تحوّلت إلى اقتصاد قائم بذاته، وتشير تقارير "مركز النزاهة الدولية" إلى أن 65% من عقود تشغيل المعابر تُمنح لشركات تابعة لأطراف النزاع، فيما ارتفعت ميزانيات "إدارة الحدود" بنسبة 40% في مقابل 15% فقط لبرامج حماية اللاجئين، أما صفقات السلاح المرتبطة بأزمات النزوح، فقد تجاوزت 12 مليار دولار، ما يعكس كيف تحوّلت المعاناة إلى استثمار.
ورغم أن اتفاقيات حقوق الإنسان تملأ الأدراج، فإن الواقع يفضح حجم التواطؤ الدولي، فقد كشف تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لعام 2024 أن أقل من 5% من التمويل الإنساني العالمي يُوجّه فعلياً لحماية اللاجئين في نقاط العبور، والأسوأ أن 45 دولة لا تزال ترفض التوقيع على معاهدة تحظر استخدام المدنيين ورقة ضغط سياسي في النزاعات.
لاجئون تحت الابتزاز
أفادت الصحفية الكردية والناشطة الحقوقية لامار أركندي، مديرة منظمة TBP الأمريكية المعنية بشؤون ضحايا الحرب في شمال شرق سوريا، بأن معاناة اللاجئين السوريين لم تنتهِ بانتهاء المعارك أو تبدد دخان المدافع، بل تحوّلت إلى أوراق ابتزاز سياسي تمارسها دول عدة، وتحديدًا النظام السوري الذي لا يزال يفرض شروطًا تعجيزية على الدول المستضيفة للاجئين مقابل قبول عودتهم إلى بلدهم، على الرغم من أن الكثير من هذه المناطق لا يزال غير آمن.
وأضافت أركندي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، بعض الدول الغربية بدأت تسعى لإعادة آلاف اللاجئين السوريين إلى بلد مزّقته الحروب، مستندة إلى ذريعة غير دقيقة مفادها أن "سوريا أصبحت آمنة"، متجاهلة المناطق الخارجة عن السيطرة والتي تعجّ بالجماعات المتطرفة.
وأكدت أركندي أن الفصائل التركمانية مثل "فصيل سليمان شاه" بقيادة "محمد أبو عمشة" و"فهيم عيسى" وغيرهم، استغلوا أجساد الأطفال ورواتبهم، وأغرقوا السوق السوداء بالتجنيد القسري لأطفال لا تتجاوز أعمارهم الـ15 عامًا.
واستنكرت لامار أركندي ما وصفته بـ"المسرحية الاقتصادية السوداء" التي نفذتها ما تُعرف بـ"الحكومة السورية المؤقتة" التي وعدت بزيادة الرواتب، في حين أنها في الواقع أقالت موظفين مدنيين وعيّنت بدلًا منهم عناصر من المعارضة، ثم فرضت ضرائب تصل إلى آلاف الدولارات على التجار، ما جعل من السوق السورية مستنقعًا لمنتجات منتهية الصلاحية، خاصة اللحوم والأدوية.
وتابعت: "حين تسير في الأسواق السورية، ترى البضائع التركية تملأ الرفوف، لكنها ليست بضائع رفاه، بل أدوات قتل بطيء، معاجين أسنان تحتوي على مواد مسرطنة، أدوية لا تخضع لرقابة، ولحوم تفتقد لأدنى مقومات السلامة. والأخطر أن تركيا سحبت البذور الزراعية الأصلية السورية، واستبدلتها ببذور تركية تُزرع مرة واحدة وتُنهك التربة، فتقل الإنتاجية، ويعاني المزارعون خسائر فادحة".
وختمت لامار أركندي تصريحها بالتحذير من سيناريو خطِر مشابه لما حدث في العراق، وهو "النفط مقابل الغذاء"، إذ تشير إلى أن سوريا قبل هروب الأسد لم تكن دولة مدينة، وكانت المصارف تعجّ بالأموال، وتكفي لدفع رواتب العسكريين والمدنيين، لكن فجأة، تحوّل الخطاب الرسمي، وأصبحت دمشق، كما يبدو، تغرق في ديون تتكفل بسدادها أطراف خارجية، ما يثير تساؤلات مشروعة حول من يستفيد من تحويل سوريا من دولة قادرة إلى دولة تحت رحمة الدين الدولي.
مطرقة السياسة وسندان الهوية
من جانبه، قال الدكتور عمرو منير، الأستاذ بجامعة سوهاج، بأن أزمة اللاجئين التي يشهدها العالم اليوم ليست وليدة لحظة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من التحولات السياسية والصراعات الدامية، مشيرًا إلى أن جذورها المعاصرة تعود إلى تداعيات الربيع العربي، وما صاحبه من انهيارات داخلية في دول مثل سوريا وليبيا والسودان. وقال إن الحراك الشعبي في هذه البلدان سرعان ما تحول إلى فوضى عارمة، أفضت إلى موجات نزوح جماعي، خاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية، التي تسببت وحدها في أكبر كارثة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية.
وأضاف منير، في تصريحات لـ"جسور بوست"، التعامل مع اللاجئين اختلف باختلاف الثقافات والنظم السياسية، ففي حين احتضنت الدول العربية اللاجئين بقدر من القرب الثقافي والاجتماعي، بحكم تشابه اللغة والدين والعادات، واجه اللاجئون في أوروبا واقعًا أكثر تعقيدًا، حيث اصطدموا بجدران من العنصرية والتهميش، ووجدوا أنفسهم في بعض الدول محصورين في معسكرات أو مجتمعات مغلقة، تفصلهم عن السكان الأصليين. بل إن بعض اللاجئين العرب تعرضوا لممارسات عنصرية بسبب لغتهم ولهجتهم ومظهرهم، ما أدى إلى تصاعد مشاعر العزلة ورفض الآخر في البيئات الأوروبية، بحسب وصفه.
وأكد أن اللجوء، رغم كونه وضعًا قانونيًا يكفل الحماية، تحوّل في بعض الحالات إلى ورقة ضغط بيد القوى الدولية، حيث بدأت بعض الدول تستخدمه في حساباتها السياسية والاقتصادية. وأوضح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال، تعامل ببراغماتية مع هذا الملف، ملوّحًا للغرب بأن استقرار تركيا هو الحاجز الأخير أمام موجات جديدة من اللاجئين نحو أوروبا، ما دفع الاتحاد الأوروبي لتقديم دعم مالي ضخم لأنقرة في إطار اتفاقات احتواء اللاجئين، خشية تفجر أزمة جديدة.
وأشار إلى أن الغرب، وإن كان يدّعي حماية حقوق الإنسان، أظهر من خلال ممارساته العملية، ازدواجية واضحة، فقد عمل لحماية حدوده ومصالحه من تداعيات لجوء محتمل، وضرب مثالًا بما حدث في سوريا، حيث قبِل الغرب -ولو على مضض- بسيطرة "هيئة تحرير الشام"، فقط كي يتجنب موجة جديدة من النزوح الجماعي.
وتأسف الدكتور منير لما وصفه بـ"الفصام الدولي" بين المبادئ المثالية التي أُسّست عليها الأمم المتحدة، وبين الواقع السياسي الموجّه بالمصالح. وقال إن الأمم المتحدة، رغم نزاهة بعض أذرعها، أصبحت في كثير من الأحيان رهينة إرادة الدول العظمى التي تستخدم أدوات الإغاثة والمساعدات الإنسانية كورقة ضغط سياسي، تُملى من خلالها الشروط على الدول الضعيفة لتخضع لتحالفات عسكرية أو اقتصادية، مشيرًا إلى أن العديد من المساعدات التي تُقدَّم خارج إطار الأمم المتحدة تُوظف بطريقة انتهازية لا علاقة لها بحقوق الإنسان.
واختتم تصريحه بالتأكيد على أن كثيرًا من الحروب الحديثة ليست سوى غطاء لصراع على الموارد الطبيعية، يتم فيه التضحية بالحقوق والسيادة والإنسان، لافتًا إلى أن الدول الكبرى لا تعبأ بحقوق الإنسان إلا إذا تعلق الأمر بمصالحها أو بمواطنيها.
وتطرق إلى ما وصفه بخطر "الشيفونية العرقية" المتزايدة في بعض المجتمعات، بما فيها مصر، منتقدًا النزعة المتعالية التي بدأت ترفض اللاجئين العرب على أساس الشكل أو الأصل، وقال إن الهوية المصرية لم تكن يومًا عرقية نقية، بل هي نسيج ثقافي تراكمي تشكل من خلال حضارات متعددة، ولا يمكن اختزاله في لون أو لهجة أو ملامح، داعيًا لتجاوز خطاب الكراهية.
وتذكّر أن ميزان التفاضل الحقيقي هو التقوى، كما أقرّه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا العرق ولا الأصل، مؤكدًا أن المجتمعات القوية هي تلك التي تتسع للآخر، لا تلك التي تنكمش على أوهام النقاء.